-
فضاءات حلب الجغرافية والسياسية في رواية "أطباق المشمش" للروائي عزيز تبسي
إن علاقة الروائي بالواقع علاقة كائن حي بالحياة، فالروائي لا يصور الواقع بقدر ما يصور إسقاطاته التي في ذهنه ومخيلته وحواسه، وحرية حركته على أرض هذا الواقع، وهذه الحرية تبيح له معرفة هذا الواقع الذي يغني قدرته الفنية والفكرية التي تساعده على انتزاع أكبر مساحة ممكنة من الواقع الذي نصّبوا أنفسهم سدنته، سواء أكانوا سلطة أو مؤسسات أو عوائق اجتماعية أخرى، لكي يشكل الروائي من هذا الواقع الفضاء والخيال لعمار بناء الرواية، وشكلت مدينة حلب وفضاؤها "الجغرافي، التاريخي، العمارة، الطقوس الاجتماعية، والعادات اليومية" جزءاً من فضاءات العوالم الروائية السورية لدى العديد من كتاب الرواية السورية، فالفضاء يدمج المكان الروائي (التخيلي والواقعي) بين صفحات الرواية، بما فيه من استعادة لملامح قديمة في "الصور، المخططات، الحلم، الحس، والذكريات".
عن الفضاء الروائي الحلبي، وعوالم الأحياء الحلبية، تتحدّث رواية الكاتب والقاص والروائي عزيز تبسي "أطباق المشمش" الصادرة عن دار الخيال في العام 2022، بمدينة الشارقة في الإمارات العربية المتحدة، وكان قد صدر للروائي مجموعة قصص في العام 2015، "يوم كل يوم" عن دار الفارابي في بيروت، ورواية "روائح عنبرية" في العام 2018، عن دار الخيال في بيروت أيضاً.
الفضاءات الحلبية في الرواية:
تبدأ حكاية شخصية "هشام" من سفره من دمشق التي يسكن بها في حي الدويلعة إلى مدينة حلب التي يصلها، حيث "توقف السائق أمام كراج (أمية) المجاور لجامع (الملاخانة)، سرعان ما وجدت نفسي أمام عربات شوائيين، تتماوج وجوههم المتعبة خلف دخان شواياتهم. باعة أوراق اليانصيب الوطني، الحمالون والمتسولون، وعمال اليومية يتحلقون حول بعضهم على الرصيف المقابل لفندق (كلاريج)، ترتشح رائحة العرق ونبيذ البراندي من أقمشة الكتان التي جفت على أجسادهم". ويصف مكان بيت جده موضحاً أن الجد "قرر نقل سكنه من حي (البندرة) إلى (زقاق الصفية)، لينعم بالبناء الطابقي الحديث بإطلالة شرفته المفتوحة على بساتين الشهبندر وباقي درويش والحجاز، والتمتع بالمدى الأخضر المفتوح وهو يرتشف قهوة الصباح مع جدتي".
ويشرح كيف ارتبط حي (محطة بغداد) بمحطة القطار، التي بدأ المهندسون الألمان إنشاءها عام 1910، لتكون محطة أساسية للخط الحديدي "برلين – إسطنبول - البصرة"، وتزايد العمارات في "القدسي وشلاح وكبابة وإبراهيم باشا وأسود".
وتزامن ذلك مع قرار البلدية تشييد الحديقة العامة عام 1947 على مساحة (17 هكتار) وافتتحتها لأهالي المدينة بعد سنتين، وافتتح (قسطنطين نوتوراكي) فرعاً ثانياً، لمقهى صيفي لبيع الحلويات والمرطبات، توسيعاً لفرعه الأول في بستان (كل آب)، حيث كان يتجمهر الفتية أمام نوافذ مطبخه لاستنشاق أبخرة مزيج السكر للقرفة والمحلب واللوز المبشور، مرفوعين فوق نار متأنية، وهناك مقهى (السندباد) أيضاً، حيث يلتقي ملاكو الأراضي والمزارعون، بعد الانتهاء من جني قيمة محاصيل أراضيهم.
ولا تقف فضاءات حلب عند الأمكنة، وإنما تتجاوز ذلك إلى شخصيات الرواية "ينتمي خورشيد إسحق لعائلة مهاجرة من أنطاكية بعد ضم تركيا للواء إسكندرون، تنقل والده مع أسرته بين بيوت عديدة، عمل سائقاً على شاحنة نقل بضائع بين ميناء اللاذقية إلى حلب، استأجر هذا البيت في العمارة التي شيدتها أسرة إبراهيم باشا، جمعته المصادفة المعمارية مع أسرة (ماركوبولي)، التي تعود إلى أصول إيطالية، بينما احتفظ ناظم إبراهيم باشا بالطابق الأول، المسور بحديقة، قبل أن يستولي عليها الحرس القومي، أثناء سفره مع أسرته للاصطياف في لبنان، ويحولوه إلى شعبة حزبية خاصة بالموظفين والمهن الحرة".
ويعرض هشام عمل أختيه أسماء ونايلة كمعلمتين "قادهما العمل من رسغيهما إلى الاختبارات المركبة للمدينة وأهلها، إذ لم تعد المدينة بحدود أحياء محطة بغداد والجميلية والإسماعيلية، حيث سكنتا وسكنت عماتهن وخالاتهن، اختلفت أنماط السير في الشوارع، ونطق الكلمات، عمارة البيوت، أكوام الزبالة على الأرصفة، العدوانية الفائضة التي يواجه بها المختلفين باللباس واللهجة. وقادهما العمل إلى إجحاف الهرمية الإدارية وإذلال التقارير الكيدية، شعرتا دوماً وهما تخوضان معاركهما اليومية، أنهما وحيدتان بلا حماية".
ويسرد هشام فضاءات حلب المدينة بخط سيره بعد خروجه من فرع الأمن الذي أوقف عنده ليوم واحد "خرجت ولم ألتفت إلى الخلف، اتجهت نحو البيت، سرت على الرصيف المحاذي لجدار دير الراهبات الفرنسيسكانيات، باتجاه شارع الملك فيصل، أفكر بالطريق الطويل الوعر".
فضاءات السياسة:
يعرض الروائي عزيز تبسي لفضاءات السياسة في رواية أطباق المشمش من خلال عرض أوضاع الفلاحين قبل الوحدة بين سوريا ومصر، إذ يقول: "وصلوا (الفلاحون) مزودين بمشروع سياسي، افتتحه عهد الوحدة السورية - المصرية عام 1958-1961، وتابعه الانقلاب العسكري في آذار 1963، ليحلوا مكان أعيان المدن، ويستولوا على أملاكهم وامتيازاتهم، التي حصلوا عليها في فترة الحكم العثماني، وحافظت على مكانتها، خلال فترتي الحكم الملكي الفيصلي 1910- 1920، والانتداب الفرنسي 1920-1946".
ويزور هشام المحامي فايز قاطرجي، صديق أبيه القديم، حيث بدأت صداقتهما من مقاعد الدراسة، وارتبط "كلاهما بحزب الشعب، بوصفه لإطار السياسي المعبر عن وجهاء مدينة حلب، وثمرة لانقسام الكتلة الوطنية التي كانت قد استوعبت معظم الميول المناهضة للانتداب الفرنسي، من مناضلين لا يبارحون المقاهي والمطاعم، إلى الذين رفعوا السلاح وقاوموا الاحتلال، وضحوا بأولادهم وأملاكهم، وما بينهما من وجهاء كانوا أدوات طيعة بيد الولاة العثمانيين، ومتعاطفين مع البريطانيين، وحشد من المتضامنين والمتبرعين بالأموال، ومناضلين جوالين بين فنادق سويسرا وفرنسا وأمريكا، مزودين بثقافة (ديبلوماسية الكازينوهات)".
ويشرح الأستاذ قاطرجي أوضاع سوريا في مرحلة الانقلابات، فيقول: "فشلنا في حكم البلد، بالنظام البرلماني، افتتح حسني الزعيم أول انقلاب عسكري عام 1949، ونحن نحاول الإظهار للناس الفروقات بين حكم المستعمرين وحكم الوطنيين، تقسمنا خلافات سياسية وشخصية، وانحيازات لمحاور عربية. فهم (العسكريون) من عمّقوا التحولات التي حصلت مع نهاية الحرب العالمية الثانية، أو هناك من تكفل بشرحها وإفهامها لهم، كان المطلوب إجراء تحولات عاجلة، لم تعد التطورات العالمية تسمح بانتظار نقاشات البرلمانيين الطويلة وانقساماتهم التي لا تنتهي، أوكل الأمر للجيش، إذ بإمكان قادة الانقلاب اتخاذ عشرة قرارات بساعة".
وينقل عن شخصية ميخائيل القومية واليسارية مشاركته في الثورة الفلسطينية "إن معارك المقاومة الفلسطينية في الأردن كانت مع الجيش الملكي، لا مع الجيش الصهيوني، وإن الأنظمة العربية عاجزة عن حل القضية الوطنية، وترى القضية الفلسطينية، كشفاً لضعفها وتخاذلها، لهذا تواطأت على حلها بطريقة تؤدي إلى تصفيتها وتصفية الثورة الفلسطينية، وهذا ما وضح في الأردن، ويتأكد الآن في لبنان".
ويصف هشام عملية اغتيال في شوارع حلب من قبل تنظيم الإخوان المسلمين لأحدى الشخصيات "لمحت شاباً يشهر بيده اليمنى مسدساً، يركض باتجاه بوابة القصب، غاب هناك في الازدحام. ذكرتني هيئته، قامته، طريقة ركضه، لون شعره، بصورة (سمير الملاح)، الذي لم أره من أكثر من سنة، لم يزرني كما كان يفعل على الدوام، كما لم أصادفه في الشارع أو ببيوت أصدقائنا، ولم أعتد على زيارته في بيته الذي يعيش فيه مع أمه. انعطفت في الزقاق القريب، وأكملت طريقي بسرعة، للابتعاد قدر المستطاع عن مكان الجريمة، تجنباً للتوقيفات العشوائية التي ستبدأ فور وصول سيارة المخابرات أو الشرطة".
ويلتقي زميله سمير في باص ويجلس إلى جانبه ويسأله ماذا تعمل بعد أن أوقفت دراستك؟ أعمل على "تحطيم الطاغوت، وإقامة حكم الله. ألم تسمع بمروان حديد الذي أضرب عن الطعام حتى نال الشهادة؟ ألم تسمع عن اعتقالات أخوتنا وتعذيبهم؟!".
ويقصّ ما حدث في ليلة مجزرة مدرسة المدفعية "ليل حزيراني طويل، لم يتوقف زعيق سيارات الإسعاف، تواردت الأخبار عن مذبحة مروّعة لطلاب الضباط في مدرسة المدفعية. خطر ببالي على الفور جمال قضماتي، ترى هل سرح أم ما يزال في الخدمة العسكرية"، ويتأكد من سلامة جمال "مررت على دكان والد جمال، رأيته واقفاً قرب أبيه".
إنّ فضاءات السياسة في رواية أطباق المشمش متنوعة وغنية من أجواء الوحدة السورية المصرية وتفاعل الفلاحين السوريين معها إلى ما يسرده المحامي قاطرجي ما قبل الاستقلال، إلى أجواء الحزب الشيوعي واليسار الجديد من "رابطة العمل الشيوعي، والشغيلة" والمقاومة الفلسطينية، ومرحلة الإخوان المسلمين في سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين وعمليات الاغتيال الفردية، والإرهابية الجماعية.
أخيراً.. إن رواية أطباق المشمش للروائي عزيز تبسي تستحق القراءة من خلال فضاءاتها المفتوحة على التاريخ العمراني لمدينة حلب، والأجواء السياسية التي عاشتها، عبر حوامل اجتماعية خاصة تتألف من أسرة هشام وغيرها من المحيط الحلبي.
ليفانت - بسام سفر
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!